* د. محمّد عمارة
منذ اللحظة الأولى لنزول القرآن الكريم – بمكة المكرمة – وعلى إمتداد سنوات نزوله بالمدينة المنورة، كان الإعلان عن أنّه
"المعجز.. المتحدي" و"التحدي.. المعجز".. "ليس للعرب وحدهم.. وليس للبشر المعاصرين فقط.. بل للإنس والجن قاطبة، عبر الزمان والمكان وإلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها.
لأنّ القرآن الكريم هو الوحي الخاتم للنبوة الخاتمة، الذي خُتمت به معجزات النبوات والرسالات وشرائعها، فلقد شاء الله – سبحانه وتعالى – أن يتعهد هو بحفظه من التحريف لفظاً بالتبديل والتغيير، ومعنىً بفاسد التأويلات،
وذلك لتظل حجة الله قائمة أبداً على عباده، لهذا الوحي الخاتم الخالد.. وهذه الرسالة الخاتمة الخالدة، إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها.
لقد شاء – سبحانه وتعالى – لطفاً منه أن يحفظ هذا الوحي القرآني الخاتم حفظاً إلهياً.. فلا يدعه إلى الناس – بأهوائهم.. وقدراتهم النسبية – يحرِّفون كلمه من بعد مواضعه، أو ينسون حظاً مما ذُكِّروا به فيه.. كما حدث للكتب السماوية، التي سبقت القرآن الكريم.
وعن هذه المشيئة الإلهية، قال الله سبحانه وتعالى في هذا الإعجاز القرآني المتحدي: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر/ 9)، (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا) (الكهف/ 27)،
(أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (الأنعام/ 114-115).
كما تعهد سبحانه وتعالى بعصمة رسوله (صلى الله عليه وسلم) من أن ينسى شيئاً مما أوحي إليه.. فقال لرسوله (صلى الله عليه وسلم):
(سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى * إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى * وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى) (الأعلى/ 6-
،
من ثمرات حفظ القرآن الكريم، وعندما كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يتعجل بذل الجهد والطاقة في حفظ ما يوحيه الله إليه، مخافة أن يصيب هذا الوحي القرآني شيء مما أصاب الكتب السابقة.. من الضياع والتحريف والنسيان؛
جاء الوحي الإلهي لرسوله (صلى الله عليه وسلم) بأنّ الله – سبحانه وتعالى – كما تعهد بحفظه وكما عصمه من النسيان، فلقد تعهد بجمع هذا الوحي القرآني.. فالمشيئة الإلهية قد تعهدت بالجمع،
والمتضمن للترتيب والحفظ جميعاً: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) (القيامة/ 16-19).
ولأنّ الله – سبحانه وتعالى – إذا أراد أمراً في عالم الإنسان، الذي فيه تخيير وتمكين، هيأ لهذا الأمر أسباب التحقيق والتمكين..
فلقد هيأ لهذا القرآن من أسباب التدوين والحفظ والتوثيق ما لم يتهيأ لكتاب سابق في تاريخ النبوات والرسالات.
وعن هذه الحقيقة قال شيخ الأمناء، وأحد أبرز العقول "الأصولية والمجتهدة والمجددة" في عصرنا الحديث.. الشيخ أمين الخولي.
"لقد كانت للرسول (صلى الله عليه وسلم) عناية بنشر الكتابة في مجتمعه.. وكان للرسول (صلى الله عليه وسلم) كَتَبَةُ وحي يكتبون بين يديه القرآن.. وقد بلغ عددهم نحو بضعة وعشرين شخصاً، ورأى – عليه السلام – لبعضهم أن يتعلموا من اللغات غير لغتهم العربية.. وكذلك كتب القرآن أولاً بأوّل،
مع حفظ ما ينزل منه كذلك أولاً بأوّل، فتهيأ للنص القرآني من الإطمئنان ما لا يكاد يتوافر مثله على التاريخ لما حفظت البشرية من نصوص وأصول...".
* وعن هذه الحقيقة ذاتها – حقيقة الوثوقية العليا لحفظ القرآن وتدوينه وتوثيق سوره وآياته – قال المستشرق الإنجليزية "مونتجمري وات" (1909-2006م) رغم أنّه قسيس أنجيليكاني وابن قسيس!! قال:
* "إنّ القرآن كان يُسجَّل فور نزوله.. وعندما تمَّت كتابة هذا الوحي شكّل النصّ القرآني الذي بين أيدينا.. إنّه كلام الله وحده.. قرآن عربي مبين.. وعندما تحدى محمد أعداءه أن يأتوا بسورة من مثل السور التي أوحيت إليه كان من المفترض أنهم لن يستطيعوا مواجهة التحدي، لأن السور التي تلاها محمد هي من عند الله، وما كان للبشر أن يتحدى الله سبحانه".
* وعن ذات الحقيقة الوثوقية غير المسبوقة التي امتاز بها وتميّز بها تدوين القرآن الكريم، جاء في مصادر علوم القرآن:
أخرج أبو داود من طريق يحيى بن عبداللحرمن بن حاطب قال:
"كانوا يكتبون ذلك القرآن في الصحف والألواح والعُسُب (جريد النخل).. يكتبونه بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام".
* "وقال الحارث المحاسبي في كتاب (فهم السنن): إنّ كتابة القرآن ليست بمحدثة، فإنّ النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يأمرهم بكتابته".
* ولذلك وجدنا في المصادر التي أرّخت لمجتمع النبوة ودولتها كيف أن جهازاً كاملاً وكبيراً في ذلك المجتمع وتلك الدولة قد تخصص في القيام على تدوين الوحي القرآني في أدوات التدوين المتاحة يومئذٍ – الصحف والألواح والعُسب – وذلك فضلاً عن حفظه في الصدور وتطبيق آياته وأحكامه بالمجتمع والأسرة والحياة الخاصة والتعبدية آناء الليل وأطراف النهار.
نعم.. لقد ذكرت المصادر الموثوقة والمعتمدة التي أرّخت لمعالم وعمالات دولة النبوة والمؤسسات المجتمع النبوي؛
أن دولة النبوة التي بدأ الوحي فيها بـ"اقرأ" سواء التي أخرجت العرب من ظلمات الأمية إلى نور العلم والحضارة، أنّ هذه الدولة قد كان لرئيسها (صلى الله عليه وسلم) أكثر من أربعين كاتباً، وأن تدوين آيات الوحي القرآني وسوره قد تخصص له وفيه ثمانية وعشرون من هؤلاء الكتّاب.
* وإذا كان البعض سيعجب من تخصيص هذا العدد الكبير من الكتّاب لتدوين الوحي القرآني فور نزول آياته الكريمة – في مجتمع كانت تشييع فيه الأمية – فإنّ هذا الإعجاب سيتزايد عندما تكشف الحقيقة التاريخية أنّ هؤلاء الكتّاب الذين تخصصوا في تدوين الوحي القرآني، لم يكونوا مجرد كتّاب يحسنون القراءة والكتابة، وإنّما كانوا من أركان القيادات التي أقامت الدين، وأسست الدولة، وفتحت الفتوح، وأزالت القوى العظمى التي قهرت الشرق يومئذٍ، ووضعت الأسس الراسخة لهذه الحضارة الإسلامية التي نبعت من هذا الوحي القرآني العظيم الذي تعهدوا آياته وسوره بالتدوين والتوثيق.
ولعلها المرّة الأولى التي تتكشف فيها أبعاد هذه الحقيقة.. عندما لا نكتفي بذكر أمر الكُتّاب الثمانية والعشرين الذين تخصصوا في تدوين الوحي.. وإنّما نترجم لهم في سطور ترجمة تكشف عن حقيقة أنّهم لم يكونوا مجرّد خبراء في القراءة والكتابة، وإنّما كانوا زعماء وقادة في المجتمع النبوي؛ الأمر الذي يكشف عن مدى المصداقية والوثوقية التي هيأها اللطف الإلهي لتحقيق المشيئة الربانية بالحفظ لهذا الكتاب.
لقد جاء في كتاب: "نظام الحكومة النبوية" المسمى "التراتيب الإدارية" وهو أوفى وأوثق المصادر التي جمعت معالم دولة النبوة ومؤسساتها وعمالاتها وملامح مجتمعها – أنّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) باعتباره النبي والحاكم، قد اتّخذ لصناعة الكتابة ثلاثة وأربعين كاتباً، منهم ثمانية وعشرون كاتباً تخصصوا في تدوين الوحي القرآني.